لم تُشكِّل عملية «طوفان الأقصى» مفاجأة مدويّة لإسرائيل وحدها، بل لحركة «حماس» التي نفّذتها، وربّما لـ«حزب الله» الذي يدعمها ويساهم في تسليحها وتدريب عناصرها. فالعملية في نتائجها الكبيرة والخطيرة قد تكون بمستوى عمليات 11 أيلول 2001 التي هزّت الولايات المتحدة، وأدّت إلى حرب معاكسة غيّرت وجه العالم. فهل تُغيِّر عملية «حماس» وجه الشرق الأوسط؟ وكيف يمكن أن تستثمرها «حماس»؟ وكيف يمكن أن يتصرّف «حزب الله» تجاه الردّ الإسرائيلي ومتى يبدأ القتال؟
صحيح أنّ حجم العملية فاق كل التصوّرات الإسرائيلية، ولكنّه أيضاً فاق تصوّرات «حماس» نفسها. لم تكن «الحركة» تتوقّع أن تؤدّي هذه العملية إلى كل هذه النتائج: ضرب هالة الجيش الإسرائيلي وتكبيده خسائر في المعدات والأرواح، واحتلال عدد من المستوطنات والبقاء فيها عدة أيام. ولم تكن تتوقّع أن تحصل العملية بهذه السهولة وأن تسقط المواقع الإسرائيلية بهذه السرعة ومن دون خسائر تذكر تقريباً في صفوفها في الصدمة الأولى.
«حماس» فاجأت «حزب الله»
ولم تكن إسرائيل تدرك مدى التحضيرات التي أعدّتها «حماس» لهذه العملية، ولذلك نامت مرة ثانية في 6 تشرين الأول لتستفيق على تهديد كبير تتعرّض له للمرة الثانية وفي المناسبة نفسها منذ العام 1973. وهي لذلك لا يمكنها أن تنام على نتائج هذه العملية التي كلّفتها نحو ألف قتيل وأكثر من مئة أسير في يوم واحد، وضربت هيبتها وأظهرت مدى هشاشة دفاعاتها على رغم آلتها العسكرية الكبيرة. ولذلك تعمل على استيعاب الضربة والتحضير للرد الذي قال عنه رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إنّه سيغيِّر خريطة الشرق الأوسط. وهي لذلك لن تفاوض قبل حسم المعركة عسكرياً، وتتجاوز موضوع الأسرى.
«حزب الله» بدوره تفاجأ بحجم الإنجاز الذي حققته «حماس»، ولم يكن يتوقّع أن تنجح العملية بهذه السهولة وأن تحصد «حماس» كل هذا التأييد والتعاطف. فقد خطفت «الحركة» من «الحزب» الدور الطليعي في مقاومة إسرائيل وخطفت منه زمام المبادرة وحقّقت ما كان يهدّد به أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله لجهة تجاوز الحدود واحتلال المستوطنات الإسرائيلية في الجليل. فقد أفقدت هذه العملية «حزب الله» القدرة على تنفيذ أي عملية مماثلة بعدما أيقظت الدولة الإسرائيلية التي كانت نائمة وتعتقد أن اي عملية بهذا الحجم غير ممكنة.
بين 12 تموز وطوفان الأقصى
صحيح أن «حزب الله» نجح في 12 تموز 2006 في تجاوز الخط الأزرق والسياج الإسرائيلي وأسر جنديين إسرائيليين قتيلين. ولكن تلك العملية على محدوديتها ورمزيتها كلّفت الحزب ولبنان ثمناً كبيراً من خلال الحرب المعاكسة التي شنّتها إسرائيل واستمرّت شهراً كاملاً وانتهت بصدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي، الذي كان «الحزب» يسعى وراء صدوره لأنّ الحرب أنهكته، مع أنّ القرار لم يكن لمصلحته ولكنّه كان يحتاج إلى وقف النار، قبل أن يرتدّ على المكوِّنات اللبنانية الأخرى المختلف معها ويتّهمها بالتآمر عليه، وبانتظار الحرب للقضاء عليه، قبل إعلانه النصر الإلهي.
حجم عملية 12 تموز 2006 المحدود لا يقارن اليوم بحجم عملية 7 تشرين الأول التي نفّذتها «حماس». إنّها المرة الأولى التي تتكبّد فيها إسرائيل هذا الحجم من الخسائر البشرية والمعنوية التي لا يمكن أن تعوّضها. هذه العملية في حجمها يمكن أن تقاس بحجم عملية 11 أيلول وحتى بحجم عملية بيرل هاربور التي شنها اليابانيون على القاعدة الأميركية العسكرية وأدت إلى دخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، ضد دول المحور، ألمانيا واليابان وأيطاليا، وقلب موازين القوى وهزيمة هذه الدول بعدما أسقطت واشنطن جدران المحرّمات واستخدمت القنبلة الذرية كسلاح حاسم في الحرب. بعد عملية 11 أيلول أسقطت واشنطن أيضاً المحرّمات وأرسلت جيشها إلى أفغانستان والعراق وغيّرت خريطة المنطقة.
الجولان بعد حرب 1973
حرب 1973 وطريق السلام
بطبيعة التوقيت الحماسي للمعركة تمّ ربطها مباشرة بحرب الغفران في 6 تشرين الأول 1973 بين مصر وسوريا وإسرائيل. تجوز المقارنة من حيث التوقيت ولكنّها تجوز أيضاً من حيث النتائج والخلاصات. حصلت حرب 1973 بعد ستة أعوام على هزيمة العرب في حرب 1967. استطاع الرئيس المصري أنور السادات أن ينسّق مع الرئيس السوري حافظ الأسد للقيام بحرب واحدة في توقيت واحد على الجبهتين السورية والمصرية. وقد استطاعا من خلال استغلال عنصر المفاجأة في 6 تشرين الأول 1973 اختراق الخطوط الدفاعية الإسرائيلية في الجولان السوري وفي سيناء واجتاز الجيش المصري قناة السويس وأسقط خط بارليف.
ولكن بعد يومين كان الجيش الإسرائيلي يستعيد المبادرة وكان هناك جنرال إسرائيلي هو أرييل شارون قائداً للهجوم المعاكس الذي أعاد خرق الدفاعات المصرية وعبَر قناة السويس واتّجه نحو القاهرة وحاصر الجيوش المصرية التي كانت نجحت في التوغل في سيناء وشرق القناة. وكذلك أعاد الجيش الإسرائيلي كسر الهجوم السوري واستعاد الجولان واحتل القنيطرة واتجه نحو دمشق.
خلال أيام قليلة كان الجيش الإسرائيلي يهدّد نظامي الدولتين اللتين شنّتا الحرب في عملية بدأت ناجحة ولكن من دون أن تمتلكا القدرة على الحفاظ على الإنجاز العسكري الأول والإحتفاظ بالخرق والذهاب إلى التفاوض. التفاوض حصل لاحقاً بعد الهزيمة العسكرية على الجبهتين وبعد إعلان الرئيس المصري السادات وقف النار من جانب واحد الأمر الذي جعل الأسد في موقف صعب فوافق أيضاً على وقف النار ليوقف الهجوم الإسرائيلي. ولكن ماذا كانت النتيجة النهائية لذلك «الإنتصار الكبير» الذي تُقارَن به عملية غزة اليوم؟
كان أنّ النظام السوري وقّع اتفاقية الهدنة مع إسرائيل في 31 أيّار 1974 واكتفى رئيسه بالتقاط الصور وهو يرفع العلم السوري في القنيطرة التي بقيت منطقة منزوعة السلاح تحت مراقبة قوات الأمم المتحدة «الأندوف». ومنذ ذلك التاريخ لم يطلق جيش النظام السوري أي طلقة على تلك الجبهة وتفرّغ للإنخراط في الحروب اللبنانية. بدوره الرئيس السادات ذهب إلى توقيع اتفاقية سيناء الأولى لفصل القوات في 18 كانون الثاني 1974 قبل أن تتبعها اتفاقية سيناء الثانية في أول أيلول 1975، ثم زيارة السادات إلى القدس في 19 تشرين الثاني 1977، وتوقيع أول اتفاقية سلام مع إسرائيل في كامب دايفد في 17 ايلول 1978، قبل أن توقّع الإتفاقية النهائية في 31 آذار 1979 في واشنطن.
رئيس النظام السوري حافظ الأسد لم يكن رافضاً لمبدأ السلام وسعى مع واشنطن إلى الوصول إليه من خلال جلسات مفاوضات طويلة ومتعدّدة، وذهب إلى جنيف في 26 آذار من العام 2000 للقاء الرئيس الأميركي بيل كلينتون وللتوقيع، ولكنّ الخلاف كان على الثمن وعلى حق الوصول إلى مياه بحيرة طبرَيّا فتراجع في اللحظة الأخيرة. كان ذلك قبل شهرين و15 يوماً من وفاة الأسد، وقبل ثمانية أشهر من خروج كلينتون من البيت الأبيض وفوز خلفه جورج بوش الإبن.
في عملية غزّة لم يكن «حزب الله» و»حماس» يتوقعان سقوط هذا العدد من القتلى الإسرائيليين. ربما كانت الخطة تقضي بتحقيق إنجاز عسكري يقود إلى التفاوض.
عملية «طوفان الأقصى»
عندما يتريّث الحزب
في تموز 2006 لم تتحقّق توقّعات «حزب الله». ذهبت إسرائيل إلى الحرب وبعدها أتت المفاوضات. منذ القرار 1701 يحافظ «حزب الله» على الهدوء في الجنوب ويحترم قواعد الإشتباك مع إسرائيل، كما حافظ الأسد هلى الهدنة في الجولان. ولكن إذا كان رد فعل إسرائيل بعد تلك العملية بذلك الحجم فكيف سيكون ردّها بعد عملية غزة؟
ما تقوم به إسرائيل اليوم يمهّد لحرب سابعة شاملة تخوضها بعد حرب 1948 التي أدت إلى قيام الدولة الإسرائيلية، وحرب 1956 التي هزّت مصر وأدخلت واشنطن إلى الشرق الأوسط، وحرب 1967 التي أدت إلى هزيمة قاسية للعرب وتوسيع حدود الدولة الإسرائيلية واحتلال قطاع غزة والضفة الغربية، وحرب 1973 التي انتهت إلى وضع حد للحروب العسكرية مع الدول العربية، وحرب 1982 في لبنان، وحرب تموز 2006 في لبنان أيضاً.
هل تستطيع حركة «حماس» مع «حزب الله» وسائر قوى محور الممانعة الوقوف في وجه إسرائيل في حربها السابعة؟ لقد أفقدت عملية «حماس» «حزب الله» عنصر المفاجأة وأبعدته عن القدرة على شنّ عملية مماثلة ولذلك يقف متأهّباً للمواجهة ولكنّه لا يبادر إلى الدخول فيها. لا يريد أن يوسّع نطاق الحرب من جنوب لبنان قبل أن يعرف اتجاهات الحرب الإسرائيلية في غزّة.
وهو لذلك يتردّد في الردّ بعدما كان يتحدّث في شكل دائم عن التوازن الإستراتيجي وعن قوة الردع التي بات يمتلكها في مواجهة إسرائيل. عندما خاض «الحزب» حرب تموز 2006 كان يبحث عن مواجهة تفكّ الحصار الذي يواجهه في لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. حرب غزّة اليوم تأتي بينما تتوسع دائرة التطبيع مع إسرائيل لتفتح الأبواب أمام دخول المملكة العربية السعودية منها الأمر الذي يمكن أن يؤدّي إلى تغيير كبير في موازين الصراع في المنطقة من سوريا إلى إسرائيل إلى العراق وإيران. فإلى متى يستمر «حزب الله» بالتريث بالرد؟ وهل يستمع إلى نصيحة وليد جنبلاط بعدم فتح جبهات جديدة مع إسرائيل وترك المواجهة محصورة في غزّة؟
في 13 أيلول 1993 وقف «حزب الله» ضدّ «اتفاقيات أوسلو» بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ولكن استراتيجة ياسر عرفات في السلام هي التي أعادت الفلسطينيين إلى الضفة الغربية وقطاع غزّة وهي التي سمحت لـ»حماس» وغيرها بالتسلح وبالوصول إلى هذا المستوى من المواجهات. ربما كان على «الحزب» و»الحركة» الإعتراف بأنّ عرفات أيضاً كان شريكاً في هذه العملية التي نفذّتها «حماس» والتي كانت بلا أفق أمني وبلا حسابات سياسية.