تثبت التجارب التاريخية أن لكل زمن دولة ورجال. وان الرجال أدوار، ينتهون بانتهاء أدوارهم. لا تزال حتى الآن هذه القاعدة غير قائمة على النظام السوري، والذي تعايش مع حقب مختلفة وتحولات متعددة، منذ انقلاب حافظ الأسد (“الحركة التصحيحية”)، إلى اتفاقه مع هنري كيسنجر (وكانت مصر حينها هي قائدة محور العروبة والصراع مع اسرائيل)، للدخول إلى لبنان والتموضع فيه، ربطاً بالتموضع الإسرائيلي بما كان يعرف باتفاقية الخط الأحمر. وتحول دور النظام السوري ما بعد اتفاقية كامب ديفيد. فأراد الأسد الانتقال إلى موقع ريادة الصراع مع اسرائيل والتحالف مع السوفييت، بعدما ذهبت القاهرة إلى السلام مع اسرائيل والتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية.
تغيرات وتحول استراتيجي
في خضم ادعاء النظام ريادته للقضية الفلسطينية والعمل المقاوم، وسعيه المستمر للقبض على القرار الفلسطيني، من خلال الصراع المفتوح مع منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات، نجح بتوجيه ضربات قاصمة لها، لم تنجح بها اسرائيل. فتحول الدور والزمن، وبقي النظام على حاله. استمر التحول إلى ما بعد حرب الخليج الثانية وعودة الأسد إلى الأميركيين على وقع سقوط الاتحاد السوفياتي، وهو ما عززه بدخوله مفاوضات مدريد للسلام، فنال مجدداً الجائزة الأميركية في لبنان، الذي استمر وصياً عليه حتى العام 2005. بعد مرحلة 11 أيلول، واجتياح العراق، اضطر للانسحاب من لبنان، فانخرط أكثر في المحور الإيراني، حتى محاولات السعودية بقيادة الملك عبد الله بن عبد العزيز لم تنجح في استعادته من الحضن الإيراني، وصولاً إلى اندلاع الثورة السورية. ليتحول الأسد إلى حاجة لقوى متعددة، وليس فقط لإيران وروسيا.
حالياً، تدخل المنطقة إلى منعطف جديد، وسط المسار القائم بفعل الاتفاق السعودي الإيراني. ملامح هذا المسار تؤكد أن أولوية السلاح لم تعد هي الأساس، فيما الاتفاق السعودي الإيراني، يفترض أن يزيل كل مقومات المعركة التي قامت سابقاً، وكانت تتغذى بالصراع السني الشيعي. ما يعني أن الاتجاه الإيراني للتقارب مع السعودية هو تحول استراتيجي، تحتاج جدية مقاربته لتغيير في الشكل وفي آلية العمل. طبعاً، يحتاج ذلك إلى مسار طويل. وبالتالي، مسار التغيير هذا يفترض أن يطرح تساؤلات كثيرة حول المعادلات التي يتم تركيبها على صعيد المنطقة، ربطاً بدور الولايات المتحدة الأميركية، الصين، روسيا، وأين موقع السعودية وإيران من كل هذه الأدوار. ثمة خطوط وخرائط سياسية وإستراتيجية قد رسمت، ولا بد من متابعة ملامحها وآلية رسمها، لقراءة كيفية توزع النفوذ الإقليمي والدولي فيها.
الحل السوري والكلفة اللبنانية
بالنظر إلى الإصرار السعودي الإيراني على هذا الاتفاق وتطبيقه وتطويره، لا بد من أن تنجم عنه متغيرات متعددة، ولكن أدوات ترجمة انتصار كل طرف لا تزال غير متوفرة حتى الآن. وهو ما سيظهر بالتحديد في سوريا، التي يفتقد الجميع فيها إلى تصور واضح لما سيكون عليه التغيّر، وفق هذه المرحلة الجديدة التي تمر بها المنطقة، لا سيما بما يتعلق مثلاً بكيفية استيعاب المعارضة، أو استعياب عودة اللاجئين. وبالتالي، فإن أي حلول جدية في سوريا لا يمكن للنظام أن يتماهى معها، لأن الوظيفة التي اضطلع بها مختلفة جداً عن مقتضيات المرحلة الحالية. ثانياً، لا يمكن إدارة الظهر أبداً للواقع السنّي في سوريا، وهو ما يفترض إقامة التوازن، علماً أن النظام لا يمكنه القبول بأي شكل من أشكال التوازن. وبالتالي، لا يمكن الحديث في ظل وجوده عن حل فعلي أو جذري للازمة السورية.
أما بالإنتقال إلى لبنان، فإن كلفة التدخل فيه تبقى أعلى بالنسبة إلى الجميع من أي مردود يمكن أن يوفره. ولذلك، كل طرف يسعى إلى رمي كرة النار هذه على الطرف الآخر. وهو ما تعبر عنه مواقف كل القوى في إلقاء مسؤولية البحث عن حل للأزمة اللبنانية على المسؤولين اللبنانيين، وبعدم وضع فيتو على أي طرف وعدم دعم أي إسم. هذا يعني رفضاً للاستدراج إلى التفاصيل، كي لا يتحمل أي طرف الكلفة القائمة، وتفشل فيما بعد كل المحاولات.
المقاومة والسلطة
لدى حزب الله، لا بد أن يكون هناك تواؤم بين مشروعه للمقاومة ومشروع البقاء في السلطة. وبناء عليه، سيكون هناك حرص أساسي في الحفاظ على كل المعادلات الثابتة، حدودياً وداخلياً. وهو بذلك سيكون حاجة وضرورة للجميع. موقف نعيم قاسم الأخير يوضح بين سطوره الكثير من المؤشرات في هذا الصدد. إذ في معرض تنديده بالاعتداءات الإسرائيلية على غزة واغتيال مسؤولين في الجهاد الإسلامي، ومباركته للعمل المقاوم والعمليات العسكرية ضد العدو الإسرائيلي، عرّج على الملف اللبناني معلناً تمسكه بسليمان فرنجية وعدم التخلي عنه، ومتحدثاً عن تحقيقه تقدم كبير على حساب الآخرين غير القادرين على الاتفاق على أي مرشح. في مثل هذا الموقف يمكن استنتاج المواءمة ما بين “المقاومة” والحاجة للبقاء بالسلطة والتقرير فيها.
يعني ذلك أن استحضار الحاجة للسلاح سيبقى قائماً، وهو ما يتبدى من خلال نقطة أساسية تتعلق بزيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إلى الجنوب اللبناني والمواقف التي أطلقها من هناك. بالإضافة لإعادة التذكير في مسألة وحدة الجبهات، ولو بالمعنى الإعلاني وليس بالمعنى الفعلي، بغض النظر عن مسألة إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان قبل شهر باتجاه الأراضي المحتلة، والتي بقيت في الإطار المرسوم والتذكيري لبقاء معادلة السلاح ووحدة الجبهات. في هذا السياق، جاء الإعتداء الإسرائيلي الجديد على قطاع غزة واستهداف قادة الجهاد الإسلامي، وسط رسائل إسرائيلية واضحة عبر قنوات متعددة إلى حركة حماس وحزب الله بضرورة عدم الانخراط في هذا الصراع، وعدم تطبيق مبدأ وحدة الجبهات.
بحسب ما نقل من معلومات عن هذه الاتصالات، فإن حزب الله أبدى استعداده لتجنيب الجبهة اللبنانية أي تصعيد في هذه المرحلة، أو أي رد إنطلاقاً منها. ولكن في مقابل المحافظة على المعادلة العسكرية المرفوعة، أي ضربة مقابل ضربة، أو أن اي اعتداء سيطاله أو يطال الإيرانيين فإن الردود يمكن أن تنطلق من أي جبهة من هذه الجبهات. هذه القاعدة لا يمكن فصلها عن قاعدة التفاوض السياسي المستمر في سبيل إعادة تكوين السلطة في لبنان، لأن السلاح سيكون خياراً في مواجهة أي محاولة للتقويض، أو رافعاً لمعادلة فرض القوة والوجود والتأثير. ليكون الحزب في حالة مواكبة سياسية للتطورات، من دون التخلي عن مسألة السلاح، ولتبقى الموازنة ما بين الخيارين خاضعة لما تقتضيه الحاجة والمصلحة.