على الرغم من انتهاء المواجهات المسلّحة في دير الزور بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ومقاتلي العشائر العربية، تهدّد الأحداث العنيفة التي حصلت بمزيد من الانتقام والانقسام، وهو ما سينعكس على الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، حسب مجلّة “فورين بوليسي” التي دعت واشنطن إلى أن تركّز اهتمامها على ضمان عدم ظهور انقسامات مماثلة لأنّ “الفشل في تحقيق ذلك سيتيح للخصوم تقويض مكاسب واشنطن التي حقّقتها في المنطقة”.
اعتبر جيريمي هودج مراسل المجلّة للشؤون الجيوسياسية في سوريا والعراق والشرق الأوسط في تقرير له أنّ ما سمّاه أحداث “العنف العربي الكردي” الأخيرة في دير الزور السورية تهدّد بإخلال التوازن الدقيق الذي كبح تنظيم داعش وخصوم الولايات المتحدة الآخرين، وتكشف عن “عدم استقرار التحالف الذي مكّن واشنطن مع قوات “قسد” منذ عام 2017 من منع عودة تنظيم داعش وكبح التوسّع الإيراني والروسي، والإبقاء على وجود عسكري محدود. فهذا التحالف يضمّ شركاء تهدّدهم خصومات داخلية بدأت في الظهور، ونتيجة لذلك تمكّن رجال العشائر العربية بين 27 آب و6 أيلول من توجيه ضربة لقوات “قسد” التي يهيمن عليها الأكراد منذ تشكيلها في عام 2015 وطردوا الآلاف من مقاتليها من عشرات المدن والقرى في محافظة دير الزور شرقي سوريا في اشتباكات خلّفت ما بين 150 إلى أكثر من 350 قتيلاً”.
أهمية دير الزور
ركّز الكاتب على أهمية منطقة دير الزور التي يقسمها نهر الفرات إلى نصفين جنوبي يسيطر عليه نظام بشار الأسد، وشمالي تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية، ولا يوجد فيه سكّان أكراد أصليون، وهو ما يجعل حكم “قسد” أكثر صعوبة من أيّ منطقة أخرى في البلاد. ويزيد من أهمية المنطقة أنّها “الموطن لأكبر عدد من حقول النفط والغاز السورية، وهو ما يضعها في مرمى نظام الأسد وداعميه الإيرانيين والروس، الذين يسعون إلى استعادتها والسيطرة على احتياطاتها الثمينة من الطاقة”، وأنّ “موقعها على الحدود السورية مع العراق يتيح لإيران وتنظيم الدولة الإسلامية استخدامها لتهريب الأسلحة والأفراد، ويتيح لـ”داعش” بالتحديد “الاستحصال على مبالغ كبيرة من تجّار النفط لتمويل نفسه وتنفيذ هجماته على جانبَي نهر الفرات”.
أصبحت الولايات المتحدة تعتمد بشكل متزايد على مجلس دير الزور العسكري، الذي كانت قواته أكثر فعّالية من قيادة “قسد” في حشد الدعم المحلّي
في رأي الكاتب أنّ “من أسباب تمرّد عشائر شمال دير الزور التجاهل الطويل الأمد للقوى الخارجية لها، وقناعتها بأنّ قوات سوريا الديمقراطية تحوّل الإيرادات من حقول النفط والغاز في المنطقة إلى المناطق التي يزيد فيها عدد السكّان الأكراد، لذا كانت محاولة الزعيم العشائري إبراهيم الهفل وغيره السيطرة على المنطقة وإجبار الولايات المتحدة، التي تدعم “قسد”، على الاعتراف بإنشاء دويلة عربية تتمتّع بالحكم الذاتي في شمال دير الزور، مستقلّة عن قوات سوريا الديمقراطية ونظام الأسد.
على الرغم من أنّ قوات سوريا الديمقراطية كما يبدو قمعت التمرّد، بحسب مراسل المجلّة، إلا أنّها قتلت أو سجنت أو عزلت شريحة كبيرة من القيادة العسكرية والعشائرية في المنطقة، فإعلان قائدها العامّ مظلوم عبدي العفو العامّ عن الذين شاركوا في الانتفاضة استثنى “من لهم علاقات مع قوى خارجية”، أي الذين يتعاونون مع نظام الأسد لتسهيل سيطرته على شمال دير الزور. وتعتقد مصادر موثوقة أنّ رئيس مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل ربّما كان لديه في الواقع مثل هذه النوايا.
استبعد الكاتب عودة المنطقة إلى الوضع الذي تحقّق بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في أواخر عام 2017 على الرغم من لقاء مسؤولين أميركيين في الأيام الأخيرة مع أقارب إبراهيم الهفل (قائد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”) في قطر في محاولة للمصالحة مع “قسد”، وذلك نتيجة حملة الاعتقالات الواسعة التي تشنّها والدماء الهائلة التي أريقت خلال الانتفاضة التي استمرّت 11 يوماً. وحذّر من أنّ ذلك سيؤدّي إلى تقييد قدرة قوات سوريا الديمقراطية على منع عودة ظهور خلايا داعش ومنع نظام الأسد وروسيا وإيران من المطالبة بالاحتياطيات النفطية الثمينة في دير الزور، لا سيما مع تجنّب المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين الأميركيين الانحياز علناً إلى أيّ طرف في صراع بين مجموعتين تحتاج إليهما واشنطن بشدّة للعمل معاً لمنع عودة تنظيم الدولة الإسلامية.
واشنطن في موقف مستحيل
تضع هذه الأحداث واشنطن في موقف مستحيل، بل قد تكون المخاطر أكبر من ذلك، في رأي المجلّة. فمنذ تدخّلها في سوريا في أواخر عام 2014، بذلت الولايات المتحدة جهوداً لحماية شمال دير الزور من هجمات القوى الخارجية أكثر من أيّ منطقة أخرى خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. ووافقت من أجل تجنّب الاشتباك مع أحد شركاء الناتو، على إجلاء قواتها من مواقع أمامية في محافظات حلب والرقّة وشمال غرب الحسكة والسماح للجنود الروس بالحلول محلّها. لكنّها رفضت التخلّي عن سيطرتها على احتياطيات النفط والغاز في دير الزور وجنوب شرق الحسكة، لأنّ ذلك يشجّع الأطراف الأخرى في الصراع السوري على الاستيلاء على المنطقة، وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية ونظام الأسد اللذين ستمكّنهما السيطرة على هذه الحقول من الوصول إلى العملات الأجنبية والتوسّع وتهديد توازن القوى في المنطقة.
خشيت قوات سوريا الديمقراطية من أن يُتبع الخبيل إعلانه بطرد جماعتها من دير الزور، وحاولت اعتقاله في 25 تموز، فوقعت سلسلة من الاشتباكات انتهت بانتصار المجلس العسكري
في هذه البيئة، أصبحت الولايات المتحدة تعتمد بشكل متزايد على مجلس دير الزور العسكري، الذي كانت قواته أكثر فعّالية من قيادة “قسد” في حشد الدعم المحلّي. وإدراكاً لنفوذها، زادت قيادة المجلس وعشائر دير الزور من الدعوات إلى المزيد من الحكم الذاتي ابتداءً من عام 2020. اتّخذ الخبيل ما اعتُبر أوّل خطوة ملموسة نحو الحكم الذاتي في أيار 2023، عندما أعلن نفسه زعيماً لإمارة زبيد، في إشارة إلى قبيلة من القرن السابع لها فروع في سوريا والعراق والسعودية وإيران. واستضاف في 14 أيار تجمّعاً لشيوخ الرقّة وحلب ومحافظات نائية أخرى تعهّدوا بدعم الكيان القبلي الجديد. خشيت قوات سوريا الديمقراطية من أن يُتبع الخبيل إعلانه بطرد جماعتها من دير الزور، وحاولت اعتقاله في 25 تموز، فوقعت سلسلة من الاشتباكات انتهت بانتصار المجلس العسكري. في محاولتها الثانية في 27 آب، استدرجت “قسد” الخبيل إلى اجتماع مزعوم مع مسؤولين أميركيين حيث تمّ نزع سلاحه ونقله إلى سجن صحراوي معزول، حيث ما يزال موجوداً. غير أنّ عناصر قواته الأمنية، الذين تمكّنوا من الإفلات، سارعوا إلى بثّ الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبحت عشرات البلدات في أيدي مقاتلي مجلس دير الزور العسكري وحلفائهم في غضون 24 ساعة. وبحلول 31 آب، دعا الهفل قبائل المنطقة إلى الانضمام إلى المعركة، فتمدّد القتال لأسبوع آخر.
يحذّر الكاتب من أنّ تأثير الانتفاضة وإن هُزمت على ما يبدو، سيكون كبيراً. ويرجّح أن تدفع هذه التجربة المشتركة في محاربة عدوّ مشترك، العائلات والعشائر والقبائل في دير الزور إلى تنحية خلافاتها الماضية جانباً للتركيز على هدف مشترك هو الانتقام، الذي سيوفّر وقوداً كافياً لتمرّد طويل الأمد، ولا يستبعد أن تتودّد الجهات الساعية إلى زعزعة استقرار هذه المنطقة الحيوية إلى قياديّي التمرّد وأنصارهم الذين لا يمكن إعادة دمجهم في النظام القائم. وهذا الأمر يستوجب من واشنطن، في رأي الكاتب، التركيز على ضمان عدم ظهور انقسامات مماثلة بين قوات سوريا الديمقراطية والفصائل العربية الأخرى المتحالفة معها، وإلّا فستُتاح للمعارضين والخصوم الفرصة لتقويض المكاسب التي حقّقتها أميركا بشقّ النفس.