الرئيسيةمقالات سياسيةإيلاف الموارنة.. أبعد من الشتاء والصيف

إيلاف الموارنة.. أبعد من الشتاء والصيف

Published on

spot_img

كانت الكنيسة المارونية صريحة في توصيف اعتراضها على إرجاء التوقيت الصيفي على حقيقته، بوصفه قراراً اتُّخذ “من دون التشاور مع سائر المكوّنات اللبنانية”. إذاً هي مسألة سياسية ذات بعد طائفي، وأيّ نقاش اقتصادي أو تقني، على أهمّيته، ليس إلا تغليفاً لجوهرها الذي أكسبها هذا الحيّز الكبير.

في الشكل، لا شكّ أنّ في لبنان مشكلة كبرى في آليّات اتخاذ القرار. والكنيسة المارونية محقّة في أنّ إرجاء التوقيت الصيفي كان قراراً “ارتجاليّاً”. ولو صحّ ما قاله رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من أنّه عقد اجتماعات مكثّفة على مدى أشهر للإعداد للقرار لكانت المشكلة أكبر. إذ كيف يُتّخذ قرار كهذا من دون استشارة الهيئات الاقتصادية والمؤسّسات التربوية والدينية؟

في كلّ الأحوال، كانت البلاد في غنى عن الخوض في هذه المعمعة، فرمضان يحلّ في أطول أيام الصيف كما في أقصر أيام الشتاء، ولا يُلام المسيحيون في ذلك.

مشهد الدردشة بين الرئيسين برّي وميقاتي، بما يمثّلان طائفياً في السلطة، يتخطّى في رمزيّته الموضوع “الصغير” الذي كان محلّ النقاش

القلق.. والرياح الإقليميّة

لكنّ القضية هذه المرّة تتجاوز الحساسية المعتادة لدى المسيحيين والمسلمين من أيّ قرار يرتبط بالصبغة الدينية للوطن اللبناني، كمثل ذلك الجدل التاريخي حول العطلة الأسبوعية بين الجمعة والأحد. فردّ الفعل الماروني الشامل كان ينضح بمنسوب إضافي من التوتّر والقلق في ظلّ رياح محلّية وإقليمية غير مؤاتية، حتى بدا كأنّ بيان البطريركية يتصدّى لتهديد وجودي.

مشكلة القرار ليست فقط أنّه أتى بالاتفاق بين رئيسين شيعي وسنّي وفي ظلّ فراغ الرئاسة المسيحية، (على نحو الاتفاق بينهما على عقد جلسات الحكومة)، بل إنّه يأتي في ظلّ تغيّر في المشهد الإقليمي يمكن أن يغيّر الأساسيات التي قامت عليها صناعة السياسة في لبنان منذ اغتيال الحريري عام 2005.

كانت ركيزة صناعة السياسة تقوم على الصراع السنّي الشيعي، الممتدّ من العراق المتفجّر بعد الغزو الأميركي إلى كلّ دولة تتحرّك فيها الميليشيات الإيرانية على الأرض. ولذلك كان أساس اللعبة التنافس بين السُّنّة والشيعة على تحالفٍ مرجِّح في الساحة المسيحية. أحدث محور الممانعة خرقاً تاريخياً بعقد الصفقة مع ميشال عون قبل وصوله إلى بيروت عام 2005، ثمّ في تفاهم مار مخايل في 2006. ولأنّ المسيحيين كانوا بيضة القبّان المرجِّحة، قبض ميشال عون ثمناً كبيراً في تكوين الحكومات والإدارة العامّة، وتُوّج بانتخابه رئيساً للجمهورية.

وصل الأمر بـ “حزب الله” ألّا يمانع (علناً على الأقلّ) ما اصطُلح على تسميته “القانون الأرثوذكسي” عام 2013، وما ذلك إلا لحاجته إلى الحليف المسيحي المرجِّح.

تغيّر المزاج السنّيّ

ثمّة رياح مختلفة الآن. لم يعد في الساحة السنّيّة حالة متأهّبة للمواجهة، بل بات العدد الأكبر من ممثّلي الطائفة موزّعاً بين التحالف مع “حزب الله” أو القرب من حركة أمل، بمن فيهم قدامى تيار المستقبل. وفي المشهد الإقليمي تغيّر مماثل. هدأ الصراع إلى حدّ بعيد، ونشأ واقع جديد من الاتفاق السعودي الإيراني والانفتاح العربي الجزئي على دمشق. والحال كذلك، تلاشى الاصطفاف الذي دمغ الحياة السياسية اللبنانية منذ عقدين.

ليس ثمّة توقيت عالمي، ولا “توقيت معترف به عالمياً”، وليس التوقيت الصيفي ما يفصل بين التقدّم والرجعية، كما يزعم جبران باسيل. لكنّ المشكلة عند المسيحيين في مكان آخر

يتّفق أن يتزامن ذلك مع عودة هواجس “العدد”، بعد التلميح الذي ورد في مقابلة ميقاتي مع الزميل سامي كليب إلى دراسة وردت إلى بكركي تقدّر أعداد المسيحيين بأقلّ من 20%.

مشهد الدردشة بين الرئيسين برّي وميقاتي، بما يمثّلان طائفياً في السلطة، يتخطّى في رمزيّته الموضوع “الصغير” الذي كان محلّ النقاش. ليس التوقيت الصيفي موضوعاً حسّاساً في الظروف الطبيعية لولا أنّه ارتبط بمناسبة إسلامية في هذا الظرف بالذات.

لا يوجد “توقيت عالميّ”

كان يمكن لموضوع التوقيت أن يكون تقنيّاً بحتاً مهما اختلفت الآراء فيه. يكفي أنّ موعد تطبيقه ليس موحّداً بين أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، بل إنّ العديد من الولايات والمقاطعات في أميركا وكندا لا يطبِّق التوقيت الصيفي أصلاً، ومنها أونتاريو في كندا وأريزونا في أميركا. وأوروبا نفسها تدرس منذ سنوات التخلّي عنه تماماً. وأمّا الصين، صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فقد تخلّت عن التوقيت الصيفي منذ عام 1991 ولم تعُد إليه. وفي المحصّلة، هناك أكثر من 130 دولة لا تغيّر توقيتها بين الشتاء والصيف، من بينها اليابان والهند وروسيا والسعودية وعموم دول الخليج.

إذاً ليس ثمّة توقيت عالمي، ولا “توقيت معترف به عالمياً”، وليس التوقيت الصيفي ما يفصل بين التقدّم والرجعية، كما يزعم جبران باسيل. لكنّ المشكلة عند المسيحيين في مكان آخر. هل كان بالإمكان معالجة الموقف بمقاربة مختلفة؟

لا حاجة للحديث إلى النسخة اللبنانية من إيريك زمور بعدما أفصح عن أنّ جذر موقفه في موضوع التوقيت الصيفي يستند إلى تقسيم اللبنانيين بين “رجعيين” و”متخلّفين”، وبين مسلمين وتقدّميين من حزبه. ولا حاجة للحديث إلى القوات، فهم غارقون في وحل المزايدة مع زمور اللبناني.

البطريرك… كان يمكن

وحده كرسي صاحب الغبطة يبقى فوق الوحل وفوق اليمين واليسار. حريٌّ به أن يلجأ إليه وجدان المسيحيين من دون أن يعتريهم الشكّ في أنّ ما يسمعونه يمينية متطرّفة أو مزايدة أو تكسّب للأصوات.

وحريٌّ به حين يشغر كرسي الرئاسة وتتعطّل الدولة أن يخاطب الرعيّة كلّها، بمسلميها ومسيحيّيها، بصفته الأمين على الفكرة اللبنانية. كان يمكن للبطريرك أن يذكر رمضان مرّة واحدة في بيانه، ولو لم يوافق على تأجيل التوقيت الصيفي لأجله. كانت فرصة ليقول للمسلمين إنّهم رعايا في هذا الوطن الذي أسّسته بكركي. كانت كلمة واحدة منه تكفي لإطفاء هذا الانفلات الطائفي من الجانبين.

في تبدّلات المناخ الإقليمي بين شتاء وصيف، لم يكن الموارنة في حاجة إلى ربح معركة التوقيت، بل ربّما يكونون أكثر حاجة من أيّ وقت مضى إلى “إيلافٍ”* لبناني يتجاوز دعوات باسيل إلى الاصطفاف الماروني، بعدما توجّس من انتهاء حاجة “حزب الله” إليه.

أحدث المقالات

جنوب الحرب وشمال النازحين والدرّاجات.. تلغي”الدولة الوطنيّة”؟

كان المشهد في لبنان يوم الجمعة الماضي معبّراً جدّاً عن صورة البلد وإشكاليّاته، أو...

كيف سينعكس غياب رئيسي وعبد اللهيان على لبنان؟

بدأت التساؤلات تتوالى بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين عبد الأمير...

سباق التفاوض الإقليمي: “الثنائي الشيعي” للفوز بلبنان والرئاسة؟

أحداث من التاريخ يمكنها أن تتشابه أو أن تتكرر، وإن بسياقات وظروف مختلفة. أواخر...

الزيارة الأولى منذ اتفاق الدوحة… ما وصيّة جنبلاط من قطر؟

للمرة الأولى له منذ أيار 2008، يوم استضافت قطر القادة اللبنانيين وإعلان اتفاق الدوحة،...

المزيد من هذه الأخبار

قطر من “استوكهولم”: سلام شامل أو حرب أوسع..

تاريخ طويل من التفاوض الدبلوماسي بين القوى المحلّية والعالمية أعطى قطر القدرة على المراوغة...

هل تُطرَد غادة عون من القضاء؟

مع تحديد موعد لمثول النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون أمس...

سياسيّو لبنان: “الأطفال الذين يلعبون بالرمل”؟

يرسم بعض المهتمّين الأجانب بأزمات لبنان صورة غير متفائلة جرّاء استمرار ربط الحلول فيه...

“الخُماسية” تُطلق مساراً رئاسياً حتى تموز: مشاورات أو عقوبات

ما تضمّنه بيان اللجنة الخماسية بعد اجتماعها أول من أمس في السفارة الأميركية، أحدث...

مهلة حزيران للحــزب: الرئاسة… أو نتنياهو

تعدّدت المهل التي أُعطيت لإنجاز الاستحقاق الرئاسي من دون أن تَصدُق أيّ منها. إلا...

“اليوم التالي” في غــزة ولبنان: الحرب اقتراح إسرائيل الوحيد

على دوي الحرب وهديرها، تتعدد مسارات البحث عن ما يسمى بـ”اليوم التالي” لغزة، وهو...

ماذا فعل “حــزب الله” في ملف النزوح؟

في 2 تشرين الأول 2023 تناول الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ملف...

“الخماسية” في عوكر: “صيانة” دوريّة للحلّ

انعقد أمس الاجتماع الخامس للّجنة الخماسية المُمثّلة لواشنطن وباريس والدوحة والرياض ومصر في مقرّ...

صمود الحزب وحماس و”انتصارهما”: معركة نهاية الحروب في المنطقة؟

قاعدة “الحرب سجال” و”الأيام دول”، هي التي يعتمدها حزب الله وحركة حماس في المواجهة...

إنتقاد “المجتمع الدولي”… لتغييب إيران عنه؟

قد يكون انتقاد المجتمع الدولي والحملة على مواقفه، سواء في ما يخصّ عبء النازحين...

تعقيدات المفاوضات الحدودية: الطلعات والإعمار والتنقيب

لا كلام جدياً في الرئاسة. يستعيد سفراء اللجنة الخماسية حراكهم من خلال اجتماع تستضيفه...

الجيش بين باسيل و السيّد!

استبق الأمين العامّ للحزب السيّد حسن نصرالله جلسة التوصيات النيابية اليوم في شأن هبة...

نصرالله “المنتصر”: وصيّ على مستقبل لبنان وسوريا ولاجئيها

يستعجل حزب الله إعلان انتصاراته. لا يريد لها أن تقتصر على لبنان فقط، بل...

وثيقة بكركي: إيجابية بو نجم لا تُبدّد الصعاب

ستعلن بكركي وثيقتها التي حملت عنوان «المسيحيون في لبنان إلى أين؟» في غضون أسبوع...

عين الخارج على هويّة الرئيس قبل الحدود

كلٌّ عالق في مأزقه الخاصّ. جو بايدن عالق في استحقاقه الرئاسي. بنيامين نتنياهو عالق...