الرئيسيةمقالات سياسيةأزمة البنوك الأميركيّة: الإفلاس الذي يشتهيه اللبنانيّون

أزمة البنوك الأميركيّة: الإفلاس الذي يشتهيه اللبنانيّون

Published on

spot_img

كان يمكن لبنك “سيليكون فالي” أن يستمرّ بالعمل لأربع سنوات أخرى، من دون أن يدفع لزبائنه ودائعهم، ومن دون أن يعلن الإفلاس، ثمّ يعلن الإضراب إذا ما حصل أحد عملائه على حكم قضائي يلزمه بالسداد. يحتاج هذا السيناريو فقط إلى وجود رياض سلامة بدلاً من جيروم باول على رأس مجلس الاحتياطي الفدرالي.

ما حدث في أميركا خلال عطلة نهاية الأسبوع كان شيئاً مختلفاً. تعرّض البنك الذي يقارب حجم أصوله 211 مليار دولار، إلى هجمة سحوبات من المودعين (bank run) قاربت 40 مليار دولار، فانهار البنك. لكن ما حدث بعد ذلك مهمّ لحسم الجدل العقيم الذي يغرق فيه لبنان منذ اندلاع الأزمة.

على الفور، وضعت الهيئة الفدرالية لضمان الودائع (FDIC) يدها على البنك، وقامت بتسييل أصوله لتوفير الحد الأدنى المضمون من كلّ وديعة، والمحدّد قانوناً بـ250 ألف دولار، وجعلها متاحة للمودعين اعتباراً من صباح أول يوم عمل، وهذا كلّه قبل أن تعلن السلطات خطّتها للمعالجة.

تكفي معرفة أنّ صناديق التحوّط كانت تعرض على المودعين في بنك سيليكون فالي يوم الجمعة بيع ودائعهم بثمانين في المئة من قيمتها، أي بحسم 20%

قيمة وضع اليد على البنك أنّه حفظ الأصول الموجودة في البنك، ليصار إلى حلّ من اثنين: إمّا إيجاد مستثمر يشتري البنك ويحفظ حقوق المودعين، وإمّا أن يصفّى البنك وتستخدم العوائد لسداد أعلى نسبة ممكنة من الودائع.

تكفي معرفة أنّ صناديق التحوّط كانت تعرض على المودعين في بنك سيليكون فالي يوم الجمعة بيع ودائعهم بثمانين في المئة من قيمتها، أي بحسم 20%. وهذا لثقتهم أنّ النسبة التي تغطّيها الأصول الباقية لدى البنك أعلى من ذلك. والسبب أنّ هناك سلطة رقابية وضعت يدها على تلك الأصول ومنعت العبث بها. (تخيّل أنّ بنكاً ما زالت أصوله تغطّي أكثر من 80% من الودائع يعلن إفلاسه، فيما بنوك لا تغطي أصولها 10% من الودائع تسرح وتمرح في لبنان، وتُتْرك لعبث ملّاكها وإداراتها!).

في يومَي العطلة، سارع مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) مع هيئة ضمان الودائع الفدرالية (FDIC) إلى إنشاء صندوق مهمّته ضمان كامل الودائع في البنوك التي تتعرّض لهجمات من المودعين. الفكرة ببساطة أنّ المودع لن يبادر إلى سحب كامل وديعته حين يطمئنّ إلى سلامتها.

4 مبادىء مصرفيّة عالميّة

أرست أزمة بنك “سيليكون فالي” مبدأً عالمياً جديداً في التعامل مع تعثّرات البنوك، لخّصته كلمة الرئيس الأميركي جو بايدن بأربعة مبادئ، هي خلاصة عقود من تطوّر التشريع المصرفي، وبالأخصّ، خلاصة دروس الأزمة المالية العالمية:

1- مسؤولية الدولة عن ضمان الودائع كاملة.

2- عدم مسؤولية الدولة عن إنقاذ (ملّاك) البنوك، وعدم جواز استخدام الأموال العامة لهذه الغاية، باعتبار أنّ مالكيها مستثمرون قرّروا بملء إرادتهم الاستثمار واعين لِما فيها من مخاطر، وعليهم تقبّل خسارة كامل استثمارهم.

3- معاقبة من تسبّبوا بالخسارة.

4- تطوير التشريعات لمنع تكرارها.

آن للجدل العقيم حول أسس توزيع الخسائر أن ينتهي، فمحصّلة التجارب العالمية أرست الأمر. لكنّ العبرة تبقى بموازين الأمر الواقع التي تميل لمصلحة من يفضّلون أن يصل الدولار إلى 100 ألف ليرة على الشروع في حلٍّ يسلبهم شيئاً من أرباح الأزمة

المشكلة الأخلاقية في لبنان أنّ بنوك “الزومبي” ظلّت حرّة التصرّف بأصولها ومطلوباتها حتى اليوم، فيما تغطّ الهيئة المصرفية العليا ولجنة الرقابة على المصارف في سبات أهل الكهف. وكانت النتيجة أنّه بدلاً من وضع اليد على الأصول العالية الجودة لضمان استخدامها بشكل عادل في إعادة أموال المودعين، ولو بنسبة “هيركت”، تُرك الحبل على الغارب لإدارات البنوك وملّاكها للعبث بالأصول وفق ما تقتضيه مصالحهم.

هكذا ضاعت أصول البنوك التي كان من الممكن استخدامها لإعادة الودائع:

1- استخدمت المصارف 11 مليار دولار من أصولها الدولارية السائلة على الأقلّ لتهريب ودائع المحظيّين، في السنة الأولى من الأزمة فقط، بتمويل وتواطؤ مباشر من مصرف لبنان، تحت ذريعة تغطية المراكز المكشوفة للبنوك لدى المصارف المراسلة الأجنبية.

2- بدّدت البنوك 34 مليار دولار من القروض من خلال السماح للمقترضين (لا سيما كبار رجال الأعمال وأصحاب الحظوة) بسدادها على سعر الصرف القديم (1,500 ليرة للدولار)، أو عبر تجارة الشيكات. ولعب مصرف لبنان دوراً مباشراً في تلك اللعبة من خلال المحفّزات التي أعطاها والإعفاء المريب من غرامات السداد المبكر. تبرّر البنوك تلك الفضيحة بأنّه غُلب على أمرها، وأنّ المقترضين يسدّدون عن طريق كتّاب العدل، لكنّ ذلك لا يغطّي التواطؤ. فما الذي منع البنوك من أن تعلن الإضراب حتى تسوية الأمر تشريعياً أو قضائياً، كما تفعل الآن لوقف تنفيذ أحكام قضائية تلزمها بالأداء النقدي للودائع بالدولار؟

3- تُرك للبنوك المتعثّرة التصرّف بالأصول المنقولة وغير المنقولة وتهريبها كما تريد، من دون فصل بين الإدارة والملكية، ما أتاح للجهات المرتبطة بالملّاك وضع اليد على العقارات المرهونة من العملاء، أو إخراج السيولة من البنوك على شكل “مصاريف”.

في المحصّلة، كان لدى النظام المصرفي اللبناني في 17 تشرين الأول 2019 أصول بالعملة الأجنبية ذات جودة معقولة تغطّي ما لا يقلّ عن 70% من الودائع، لو أُحسنت إدارتها. وكان بالإمكان ضمان كامل الودائع التي لا تزيد على 200 ألف دولار. لكنّ الفساد جعل تلك الأصول تُستخدم لصالح المقترضين الكبار والمودعين المحظيّين.

فات الكثير من الوقت، وما كان ممكناً من المعالجات قبل ثلاث سنوات لم يعد يجدي اليوم، لكن تبقى الأسس المبدئية التي لا يمكن لأيّ حلّ أن يستقيم من دونها:

1- التخلّص من النفس الشعبوي اليساري المعادي للمودعين، والذي ينادي بعدم استخدام أصول الدولة بأيّ شكل من الأشكال لإعادة أيّة نسبة منها. فمن دون الإقرار بأولوية للمودعين لا يمكن للنظام المالي أن يقوم من جديد.

2- إيجاد طريقة لمنع أصحاب البنوك من الاستمرار بالتصرّف بالأصول بعد توقّف مؤسّساتهم عن الدفع، كما يحصل في أيّ بلد محترم يتوقّف فيه البنك عن السداد للمودعين.

3- معاقبة المتواطئين بتهريب أصول البنوك منذ 2019 حتى اليوم.

4- فرض ضريبة استثنائية (windfall) على الشركات والمتموّلين الذين استفادوا من سداد القروض على سعر الصرف القديم، بمن فيهم أولئك الذين سدّدوا قروضاً سكنية لعقارات فارهة تفوق قيمتها حدّاً معيناً، ليكن 500 ألف دولار مثلاً. فهؤلاء ميسورون لا يجوز أن ينعموا بأرباح الأزمة فيما آخرون لا يصلون إلى ودائعهم.

آن للجدل العقيم حول أسس توزيع الخسائر أن ينتهي، فمحصّلة التجارب العالمية أرست الأمر. لكنّ العبرة تبقى بموازين الأمر الواقع التي تميل لمصلحة من يفضّلون أن يصل الدولار إلى 100 ألف ليرة على الشروع في حلٍّ يسلبهم شيئاً من أرباح الأزمة.

أحدث المقالات

جنوب الحرب وشمال النازحين والدرّاجات.. تلغي”الدولة الوطنيّة”؟

كان المشهد في لبنان يوم الجمعة الماضي معبّراً جدّاً عن صورة البلد وإشكاليّاته، أو...

كيف سينعكس غياب رئيسي وعبد اللهيان على لبنان؟

بدأت التساؤلات تتوالى بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين عبد الأمير...

سباق التفاوض الإقليمي: “الثنائي الشيعي” للفوز بلبنان والرئاسة؟

أحداث من التاريخ يمكنها أن تتشابه أو أن تتكرر، وإن بسياقات وظروف مختلفة. أواخر...

الزيارة الأولى منذ اتفاق الدوحة… ما وصيّة جنبلاط من قطر؟

للمرة الأولى له منذ أيار 2008، يوم استضافت قطر القادة اللبنانيين وإعلان اتفاق الدوحة،...

المزيد من هذه الأخبار

قطر من “استوكهولم”: سلام شامل أو حرب أوسع..

تاريخ طويل من التفاوض الدبلوماسي بين القوى المحلّية والعالمية أعطى قطر القدرة على المراوغة...

هل تُطرَد غادة عون من القضاء؟

مع تحديد موعد لمثول النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون أمس...

سياسيّو لبنان: “الأطفال الذين يلعبون بالرمل”؟

يرسم بعض المهتمّين الأجانب بأزمات لبنان صورة غير متفائلة جرّاء استمرار ربط الحلول فيه...

“الخُماسية” تُطلق مساراً رئاسياً حتى تموز: مشاورات أو عقوبات

ما تضمّنه بيان اللجنة الخماسية بعد اجتماعها أول من أمس في السفارة الأميركية، أحدث...

مهلة حزيران للحــزب: الرئاسة… أو نتنياهو

تعدّدت المهل التي أُعطيت لإنجاز الاستحقاق الرئاسي من دون أن تَصدُق أيّ منها. إلا...

“اليوم التالي” في غــزة ولبنان: الحرب اقتراح إسرائيل الوحيد

على دوي الحرب وهديرها، تتعدد مسارات البحث عن ما يسمى بـ”اليوم التالي” لغزة، وهو...

ماذا فعل “حــزب الله” في ملف النزوح؟

في 2 تشرين الأول 2023 تناول الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله ملف...

“الخماسية” في عوكر: “صيانة” دوريّة للحلّ

انعقد أمس الاجتماع الخامس للّجنة الخماسية المُمثّلة لواشنطن وباريس والدوحة والرياض ومصر في مقرّ...

صمود الحزب وحماس و”انتصارهما”: معركة نهاية الحروب في المنطقة؟

قاعدة “الحرب سجال” و”الأيام دول”، هي التي يعتمدها حزب الله وحركة حماس في المواجهة...

إنتقاد “المجتمع الدولي”… لتغييب إيران عنه؟

قد يكون انتقاد المجتمع الدولي والحملة على مواقفه، سواء في ما يخصّ عبء النازحين...

تعقيدات المفاوضات الحدودية: الطلعات والإعمار والتنقيب

لا كلام جدياً في الرئاسة. يستعيد سفراء اللجنة الخماسية حراكهم من خلال اجتماع تستضيفه...

الجيش بين باسيل و السيّد!

استبق الأمين العامّ للحزب السيّد حسن نصرالله جلسة التوصيات النيابية اليوم في شأن هبة...

نصرالله “المنتصر”: وصيّ على مستقبل لبنان وسوريا ولاجئيها

يستعجل حزب الله إعلان انتصاراته. لا يريد لها أن تقتصر على لبنان فقط، بل...

وثيقة بكركي: إيجابية بو نجم لا تُبدّد الصعاب

ستعلن بكركي وثيقتها التي حملت عنوان «المسيحيون في لبنان إلى أين؟» في غضون أسبوع...

عين الخارج على هويّة الرئيس قبل الحدود

كلٌّ عالق في مأزقه الخاصّ. جو بايدن عالق في استحقاقه الرئاسي. بنيامين نتنياهو عالق...